د.ماجدة
غضبان المشلب
عند
تلك المسترخية كغيمة ، الرحبة كسماء ، الدامية كأصيل ، الفضية كفجر جديد ، تقيم كل
ايامي التي بجهلها تأريخي المشرد بين سطور افتراضية.
يوم في
مقبرة "قلعة سكر"
اهل قريتي يسمونني
العمياء ، و حين يضلون السبيل ، و يستعصي عليهم امر تضيق غرفتي الطينية بهم ، و
ينصتون لما اقول فحسب.
ما طلبت منهم ان
يطهوا لي طعامي او يغسلوا ثيابي في نهر الغراف ، لي يدان و ساقان قويتان ، استطيع
اكتشاف اين يختبيء الفطر ، كذلك استدل على اماكن نمو "التولة"* لأصنع منها صحني
المفضل ، تنوري الطيني يشهد اني اضع حطبي فيه و اصنع الخبز ، كما انني اسلق بيض
دجاجاتي و اطعمها ، و يشق علي احيانا حمل احداهن لغرض ذبحها ، و حين تفوح رائحة
اللحم يتحلق حول مائدتي اطفال اجهل وجوههم ، اوزع عليهم قطع اللحم ، و اصنع الثريد
باطباق كبيرة الحجم ، رغم ذلك لم ينادني احد باسمي الحقيقي "علاهن" ، و
انا لم اغضب بسبب ذلك ، فغالبا ما ارى في الغراف كائنات لا يراها احد غيري ، ملونة
و تسبح بحرية تامة ، أوان المغيب تحلق المخلوقات في حضن الاصيل ، مشكّلة
تضاريس لا يفك شفرتها غيري ، فأصفها لمن لا يجدون سبيلا للتسلية سوى الاستماع الى
اوهامي ، اوهام العمياء.
جدي الاعلى دلني ذات
يوم على كنز قديم ، لم اسرف في بيع حطامه ، بعيد شجرة في البرية ، تقيم دولة
سومرية اثرية ، اخذ منها ما احتاجه من الذهب بين الحين و الحين ، و لأنني العمياء
فقد ايقنوا ان والدتي قد تركت لي اساورها و قلائدها ، و إنني دفنتها في حوش الدار
، و لم يشغلوا أنفسهم كثيرا في مصدر اموالي ، فانا غالبا ما اتناول طعامي من عطاء
الأرض ، لا مما يبيعونه في سوق المدينة.
قبل ان يدفونني جوار
الشجرة البعيدة ، نصحت الشيوخ ان يجعلوا القصب متاريس لهم في الاراضي المنخفضة من
الاهوار ، و ان يرتدوا الشوك دروعا ، و يقيمون من "المطّال"** حزاما حول
القرية.........
حين الغروب رأيت
غمامات جهنم ، و قوس الموت الاسود ، و في الغراف لمحت عند القعر اجتماع الافواه
العظيمة باسنان لا تحصى......
_علينا بدفن
العمياء.
_ان فاهك اسود يا
هذا ، و انت من اهل قعر الغراف!.
_يا شيخنا ، احتملنا
كثيرا هراء العمياء!
_اني ارى قومك و ما
ستفعلون بالغراف و أهله!.
عند الشجرة البعيدة
، و انا اتنفس تراب قلعة سكر ، و اثار السومريين و عظامهم تضطرب لأضطرابي ، سمعت
معهم ، مع اقوام اخرى دفنت كما دفنت انا صراخ اهل قريتي و و وقع اقدامهم :
_لنجعل من كوخ علاهن
متراسنا ، من دخل بيتها فهو آمن.
يوم بلا
لون
قطرات حمراء على زغب
الريشة يتأرجحن ، رنوت بعيدا ، القرية تصاهر أفول نهار آخر ، و انا لم اصل بعد ،
كل عدة الرسم معي الا النهر و النخيل و اشجار الرمان و النساء الرائحات الغاديات ،
رجوت الليل ان لا يلقي بدهمائه على البيوت الهادئة البعيدة ، القطرات معلقة ، و
ادوات الرسم كلها معي...الا هم..هؤلاء الذين اردت ان يرحلوا معي بالوانهم.
الليل يحصد اشتات
ضياء الشمس الراحلة ، و ستارة مسرح مدلهمة تهبط من السماء.....، الان ادركت ليس
بين يدي سوى الريشة و القطرات الحمراء...
يوم ثورة
الخزف
اضحت اصابعها صلبة
كالطين المفخور حتى انها عجزت عن تمييزها مما احاط بها من الوان الخزف ، حمل الرجل
مقتنياته الخزفية ليضعها في خزانة زجاجية تشرف على الشارع.
_مقلتاها تلتمعان
بدمع غريب..!!!!.
اضطرب قلبها ، انها
المرة الثانية التي يتأملها فيها ، اعتادت العري في هذ المخزن ، ثوبها الرث ملقى
هناك بين كثير من امتعتها التي فخرت او تحولت الى قطع زينة تضاف الى قطع الخزف
الاخرى.
_لعل امرأة اخرى في
الدولاب تتقن همس الخزف سوى تلك التي اصبحت بعيدة؟؟؟...
هذا الرجل الاصم لا
يسمعها ، و هي متصلبة في مكانها تحاول ان لا تحطم جسدها بحركة غير مقصودة.
_حان دورك لتري
الشارع.
سورتها هالة حياء ،
اضطربت الخزانة الزجاجية حتى تشققت كطين لم يلامسه المطر ، تكورت على نفسها يلفها
وشاح صرخة مؤلمة ، و تناثرت اجزاء جسدها الخزفي على الرصيف مختلطة بشظايا زجاج الخزانة.
يوم
اينشتاينيّ
في حضرته توقفت
العيون في محاجرها دون ان تطرف ، انتحب الضوء مرائيا ، و انتحى الظلام جانبا ،
ثيابنا الممزقة رفت كرايات حمقاء ، و ارجلنا الخشبية اصدرت صوت تحطمها ارتجافا و
ارهاقا و خجلا...
من منا يجرؤ على نطق
الحرف الاول كمدخل لانبهارنا؟؟؟؟؟.
تجنبنا النظر الى
بعضنا الآخر ، تنفسنا عبراتنا و كلماتنا المتحجرة بشكواها سرا...
في قبضته و على
يمينه بضع غيمات و تشكيلة قوس قزح..، ربما هذا ما خيل لنا اننا قد رأيناه..
في حجره شمس و نثار
نجوم ، على كتفيه اراض تشبه ارضنا في كتاب الجغرافية...
_أكان ذلك
حقيقيا؟؟؟؟
_إن اتفقنا على وصفه
سنؤمن اننا رأيناه معا.......
_ هل رأيت الزنابق
العملاقة؟؟؟
_لا لم ار ، تلك
كانت بضع مجرات معلقة امامه...
_ايها الاحمق انها
زنابق لا اكثر..
_الاحمق من يظن
المجرات زنابق..
_الاحمق من يظن ان
بإمكانه رؤية مجرات على هيئة باقة زنابق...
_بل الأحمق من يظن
ذلك مستحيلا...
_كلاكما من
الحمقى...انا لم أر شيئا
يوم
اينشتايني اخر
التقطتُ عينه بملقط
كبير ، و وضعتُها في محجري المجوف ، و اعدتٌ النظر الى ذات البقعة ، التفتٌ اليه:
_ويحي ، ان ما قلته
انت كان حقا!
_هات عينك لأرى ما
رأيت..
حمل عيني و وضعها في
حفرة عينه الفارغة:
_ويلي ، انت ايضا لم
تكذب ، قد قلت حقا!!
_ماذا علينا الان ،
هل نتبادل الأعين؟؟.
_لا ، عليك ان
تصدقني فقط ، حين اصف لك ما ترى..
_اظن ان عليك انت ان
تصدقني اولا...
قال صاحب المتجر ضجرا:
_هل عدتما
للشجار؟؟؟؟؟
لم لا انسخ لكما عينين متشابهتين تماما ، لتتفقا ابدا؟؟؟؟؟.
لم لا انسخ لكما عينين متشابهتين تماما ، لتتفقا ابدا؟؟؟؟؟.
*التولة هي نبات بري ، يعرف لدى المصريين
بالملوخية ، و تسمى في العراق بالخباز ايضا ، اسمها العلمي Malva sylvestris
** المطّال
هي اقراص تصنع من فضلات البقر و تجفف تحت الشمس بغية استخدامها كوقود لنار التنور
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق