الخميس، 29 نوفمبر 2012

ما لا يقبله الحسين (ع)

´
الكاتب: بشرى الهلالي
الخميس, 29 تشرين2/نوفمبر 2012 01:03
بشرى الهلالي

أنا ابنة كربلاء.. لم أولد فيها لكني نشأت وترعرت في احضانها.. مازالت مدرستي هناك حيث خطت يدي الابجدية لأول مرة. هنالك تركت جزءا من ذاكرتي يغفو على مراتع الصبا والشباب. مازالت بيوت أهلي تنصب العزاء، وقدور أبي توقد تحتها النيران كل عاشوراء. في السنة الماضية سألته: لم تنفق اكثر من مليون دينار يأ أبي على طبخ الطعام بينما تستطيع أن تسعد بها خمسين او مئة عائلة من تلك العوائل التي تسكن أحياء المتجاوزين بأن تشتري لهم مدافئ ونحن على أعتاب الشتاء؟ سخر من افكاري التي بدت له طوباوية وقال: أنه ثواب أبا عبد الله.

لو عاد أبو عبد الله الى الحياة، هل سيرضى برؤية العراة والجياع في بلد النفط بينما تنفق الملايين على قدور سميت باسمه؟ لو تركوا له الخيار فهل سيختار الولائم والطقوس وكل ما يرافقها من اهدار للمال والانسان والزمن على أن يواجه الموت مع أهل بيته؟

شكا لي زميل من أنه لم يستطع الكتابة منذ يوم الاول من محرم لأن شقته تقع فوق محل نصب (تكية) تبدأ مراسيمها منذ الثامنة صباحا بفتح مكبرات الصوت باعلى درجاتها التي تبث قصائد العزاء الحسيني وتستمر حتى العاشرة ليلا. سألته لم لايطلب من صاحب التكية خفض الصوت؟ اجابني: (اخاف.. فهم مجموعة شباب لهم سطوة في المنطقة وربما يكونوا من الميليشيات). لكن زمن الميليشيات ولىّ ونحن نعيش في ظل دولة القانون؟

.. قبل أن يحل محرم بأيام توزعت الرايات السوداء في كل انحاء بغداد، ونصبت المجالس ومكبرات الصوت، بعضها يعيق السير وبعضها يشكل تجاوزا على الجزرات الوسطية والبنايات والمحلات، بعض صور الأئمة والشعارات لوثها الغبار والمطر. تحولت بغداد الى مجلس فاتحة كبير، وأول ما يتبادر الى الذهن ان المناسبات الحسينية هي التوقيتات الوحيدة الذي تشهد تنظيما هائلا وتعاونا شديدا من الاجهزة الحكومية والأمنية، وفور أن تنتهي تشخص كل انواع الفراغات الأمنية والاقتصادية والانسانية.

لست أدعو هنا الى محاربة الشعائر الحسينية، فربما سأتهم بالكفر والالحاد او الطائفية، لكني لست ابنة كربلاء فقط بل أفخر بكوني ابنة العراق، ابنة بغداد وكل المحافظات ، أشعلت شمعة للسيدة العذراء عندما زرت الكنيسة مع احدى الصديقات المسيحيات، وصليت في جامع ابو حنيفة وزرت مندى الصابئة.

مازال بدني يقشعر وأنا أتذكر قرع الطبول فجر العاشر من محرم فألجأ الى صدر أمي وأنا أتخيل الدماء تغطي أكفان (المطبرين)، ومازلت أشعر بضغط قدمي على أرض الشارع وأنا أتمسك بعباءتها ونحن نقف بانتظار قدوم موكب (ركضة طويريج) فيضيع صوت بكائي وسط صراخ النسوة وعويل الرجال. مئات السنوات تمر لتظل الشعائر الحسينية خالدة برغم كل ما مورس ضدها من محاولات للمنع، فهي ليست الوحيدة في العالم. في كل سنة يزحف الاف البوذيين الى معبد على هضبة التبت بعضهم حفاة وبعضهم زحفا على ركبهم، وفي كل سنة يجري تمثيل صلب المسيح في العديد من الكنائس وتهرق الدماء، فللانسان حرية ممارسة شعائره ، لكن أين الآخر؟

ماذنب المسيحي الذي وجد نفسه محاصرا بين مكبرات الصوت ليل نهار لأنه يسكن في الكرادة مع جيرانه الشيعة؟

تكررت حادثة زميلي معي، فمنذ خمسة أيام وصاحب المولدة التي تقع أمام بيتي يرفع صوت مكبرات الصوت حتى تعجز ابنتي عن الدراسة واعجز عن التركيز بعملي. اتصلت به لاطلب منه خفض الصوت، اجاب بشجاعة يحسد عليها: (اللي يعجبه يعجبه، الدولة راضية). فهل هذا هو أهم انجازات دولتنا الحديثة؟
مازال الخوف يكمم افواهنا.. نفس الخوف الذي كان يمنعنا من الاعتراض على الاحتفالات واصوات الاناشيد في (احتفالات الريس)، مع فرق واحد، ان الريس كان موجودا وما يحدث كان بأمره وعلمه، اما الحسين (ع) فلم يطلب ولم يأمر، لم يكن دكتاتورا ولم يعرف الخوف الذي صار جزءا من عالمنا. وربما لو قدر له أن يخرج ثانية ويشاهد مايجري باسمه لفتح صدره ثانية ليطلق صرخته: يا رماح خذيني. فهل هنالك رجل في بلدي يمكنه فتح صدره لمواجهة الموت كما فعل الحسين ليقاتل الغبن والفساد وامتهان الانسان العراقي؟.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق